نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
كلمة وزير الدفاع الأمير خالد بن سلمان وإعادة ضبط البوصلة اليمنية, اليوم الأحد 28 ديسمبر 2025 10:55 مساءً
في لحظات التحول الكبرى لا تقاس المواقف السياسية بحدتها بل بقدرتها على ضبط الاتجاه ومنع الانزلاق نحو الفوضى. واليمن وهو يقف عند مفترق حساس بين تسوية ممكنة وانفجار مؤجل يحتاج إلى خطاب عقلاني يعيد ترتيب الأولويات ويضع الصراع في إطاره الصحيح. ومن هذا المنطلق تبرز كلمة وزير الدفاع صاحب السمو الملكي الأمير خالد بن سلمان كوثيقة سياسية مكثفة تتجاوز الحدث الآني لتؤسس لرؤية استراتيجية شاملة تعكس طبيعة الدور السعودي في اليمن بوصفه دورا يسعى إلى إنهاء الحرب لا إدارتها، وإلى بناء الدولة لا موازنة المليشيات، وإلى حماية القضية الجنوبية ضمن حل وطني لا تحويلها إلى أداة صراع جديدة.
لأنه منذ اندلاع الأزمة اليمنية وضعت المملكة مقاربتها على أربعة مستويات متداخلة: أمن حدودها وحماية الممرات البحرية ومنع تشكل فراغ سياسي على خاصرتها الجنوبية ودعم الدولة اليمنية كمبدأ ناظم لا كعنوان شعاري، ثم إدارة التعقيد اليمني بوصفه شبكة أزمات لا أزمة واحدة، بحيث لا يكفي انتصار عسكري دون تسوية سياسية، ولا تنفع تسوية سياسية دون حد أدنى من الاستقرار والخدمات. وفي هذا الإطار جاءت رسالة وزير الدفاع صاحب السمو الملكي الأمير خالد بن سلمان باعتبارها إعادة ضبط للبوصلة في لحظة اختلاط العناوين جنوبا وتزايد منسوب المجازفة بما يهدد مسار خفض التصعيد ويشتت الجبهة ضد الخصم المشترك.
والقيمة الاستراتيجية الأولى لدور المملكة الإيجابي في اليمن أنها حولت الهدف من إدارة حرب مفتوحة إلى هندسة مخرج قابل للاستمرار. وهذا يظهر في التأكيد المتكرر على الحل السياسي الشامل تحت مظلة التوافق والحوار مع اعتبار وحدة المؤسسات ومنطق الدولة شرطين لأي شراكة حقيقية. وعندما تقول الرياض إن القضية الجنوبية قضية سياسية عادلة لا يجوز اختزالها في أشخاص أو صراعات، فهي لا تمنح تفويضا مفتوحا لأي طرف بل تعيد تعريف القضية كملف تفاوضي يجب أن يعالج ضمن تسوية وطنية لا عبر فرض أمر واقع بالقوة.
والقيمة الثانية أنها توازن بين الشرعية كمرجعية وبين التعدد اليمني كواقع. والإشارة إلى مؤتمر الرياض واتفاق الرياض ليست مجرد استدعاء تاريخي بل رسالة تقول إن المملكة استثمرت في جمع المكونات وإدخال الجنوبيين في السلطة، وفتح طريق لحل عادل لقضيتهم عبر الشراكة لا الإقصاء. وهذا يضع معيارا واضحا من يريد مكاسب سياسية فطريقها المؤسسات والتوافق لا توسيع النفوذ بالسلاح.
والقيمة الثالثة أنها تربط الشرعية بالاقتصاد وبالإنسان، لأن التذكير بالدعم الاقتصادي والمشاريع الإنسانية والتنموية ليس تفصيلا دعائيا بل جزء من منطق بناء الاستقرار، لأن الدولة لا تعود ببيانات سياسية فقط بل بقدرة على دفع الرواتب وتحسين الخدمات وتخفيف الكلفة المعيشية. وهنا تحاول المملكة تثبيت فكرة أن السلم الأهلي لا يصان دون شبكة أمان اقتصادية، وأن الفراغ التنموي هو الوقود الأوفر للتجنيد والانقسام.
وأما الرسائل السياسية المركزية في كلمة الأمير خالد بن سلمان فهي متعددة لكنها مترابطة، وتعمل كحزمة واحدة مع خطوط حمراء واضحة.
الرسالة الأولى: إعادة تعريف العدو، لأن الحديث عن شق الصف في مواجهة العدو، والتحذير بأن الأحداث في حضرموت والمهرة أهدرت التضحيات وأضرت بالقضية الجنوبية، يعنيان أن أي اشتباك داخلي يساوي خدمة مجانية للخصم ويصنع بيئة مثالية لاستدامة الحرب.
الثانية: شرعية الوساطة وحدود القوة، فالدعوة الصريحة للاستجابة لجهود الوساطة السعودية الإماراتية وإنهاء التصعيد مع مطلب خروج القوات من المعسكرات وتسليمها سلميا للسلطة المحلية وقوات درع الوطن، تعني أن المملكة تريد تحويل الخلاف من ميدان السلاح إلى طاولة الترتيبات الأمنية والإدارية مع نزع فتيل الاحتكاك الميداني.
الثالثة: نزع الشرعية السياسية عن المغامرة العسكرية، من خلال توصيف التحركات بأنها تضر بالمصلحة العامة وبالقضية الجنوبية وبجهود التحالف، لأنه يضع أي تصعيد في خانة السلوك الذي يفتقد الغطاء الوطني ويستدعي عزلة داخلية وخارجية. وهي رسالة أيضا للشركاء الإقليميين بأن الرياض تقيس السلوك بالنتائج لا بالشعارات، وأنها ترفض تحويل الجنوب إلى ساحة تنازع نفوذ.
الرابعة: حماية مسار خفض التصعيد كأولوية استراتيجية، حين يترافق خطاب الدعوة للحكمة مع تحذيرات من تقويض خفض التصعيد، فهذا يعني أن المملكة تعتبر أي صدمة أمنية جنوبا تهديدا مباشرا لمشروع إنهاء الحرب ككل. لأن فتح جبهة داخلية جديدة ينسف الثقة ويعقد مسار التسوية ويستدعي دوامات ردع لا تنتهي.
الخامسة: استثمار التضحيات كعقد أخلاقي لا كرصيد ابتزاز، والتذكير بتضحيات التحالف مع اليمنيين في تحرير عدن ومحافظات أخرى ثم القول إن الهدف كان استعادة الدولة لا فتح صراعات جديدة، يهدف إلى سحب الغطاء الرمزي عن أي طرف يحاول توظيف ذاكرة الحرب لتبرير توسع جديد.
وعلى مستوى أعمق تحمل الكلمة هندسة خطاب جديد تجاه الجنوب يقوم على ثلاثية الاعتراف والدمج والانضباط: الاعتراف بعدالة القضية الجنوبية، والدمج عبر الشراكة في مؤسسات الدولة كما كفله اتفاق الرياض، والانضباط عبر رفض فرض الأمر الواقع بالقوة. وهذا الخطاب يجعل المملكة في موقع الوسيط الضامن لا الراعي لطرف ضد آخر، ويعطيها مساحة لتقريب المسافات بين الشرعية والمكونات الجنوبية من جهة وبين الاعتبارات الإقليمية من جهة أخرى.
والرسالة لا تتجه للفاعلين اليمنيين فقط بل للخارج أيضا، فهي تقول للمجتمع الدولي إن الرياض تضع الاستقرار ووحدة المؤسسات فوق منطق المحاور، وإنها تستخدم أدوات السياسة والاقتصاد والوساطة لتقليل احتمالات الانفجار. وتقول أيضا إن أي محاولة لإعادة خلط الأوراق جنوبا ستعامل كتهديد لمسار التسوية ولأمن المنطقة بما فيه البحر الأحمر وخطوط الطاقة. وهذه هي اللغة التي تفهم في العواصم الكبرى لأنها تربط اليمن بمعادلة أمن إقليمي لا بنزاع محلي فقط.
وفي المحصلة يظهر الدور الإيجابي للمملكة هنا كدور دولة تعمل على الانتقال من إدارة الصراع إلى إدارة التسوية مع الحفاظ على ثوابتها وحماية الحدود ومنع تفكك الدولة اليمنية وفتح مسار سياسي يتسع للقضية الجنوبية، دون أن يصبح بوابة لتفتيت اليمن أو لتدوير الحرب بأسماء جديدة. وكلمة وزير الدفاع تأتي كإشارة توقيت تقول إن نافذة التسوية لا تتحمل مغامرات، وأن من يراهن على القوة داخل المعسكر الواحد يراهن فعليا على إطالة أمد الأزمة وتقوية خصوم الجميع.









0 تعليق